مقدمة
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد
فإن هذه الأمة الإسلامية أمة مصطفاة مرحومة منصورة , لها خيريتها وفضلها على جميع الأمم , وقد اختصها الله تعالى بخصائص كثيرة .
ومن هذه الخصائص ما جعله الله تعالى للأمة من نفحات الرحمة ومواسم الطاعة والخير للأمة , وذلك ليتزودوا فيها بالطاعة التي تقربهم إلى ربهم .
وكما فضل الله أمة الإسلام على جميع الأمم , فقد فضل كذلك أيام عشر ذى الحجة على غيرها من الأيام , فلنتنافس فيها ولنجعلها موسم مسارعة إلى الخير والتزود للقاء الله تعالى .
ولذلك فقد تم إعداد هذه الصفحات لتكون عوناً لي ولإخواني في الله ، وتذكرة لنا بفضل هذه الأيام الطيبة وفضيلة العمل فيها , واللهَ اسأل أن ينفع بها كل قارئ وأن يجعلها حجة لنا لا علينا .
وصلى اللهم وبارك على البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين .
د / عرفات محمد عثمان
مدرس علوم القرآن بجامعة الأزهر
1424 هـ 2004 م
أولاً :- فضل عشر ذي الحجة
يقول العلماء إن الحكم على الشئ فرع عن تصوره , ولذلك فإننا نحتاج أن نتصور فضل هذه الأيام حتى نعرف قيمتها ونقدرها حق قدرها .
ولهذه الأيام فضائل كثيرة من أهمها :-
1 – أن الله تعالى قد أقسم بها في كتابه الكريم فقال : ( والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر ) [ الفجر : 1 – 3 ] والصحيح الذي عليه جمهور المفسرين أن الليالى العشر هى عشر ذى الحجة , وقد ورد حديث فى قوله ( والفجر وليالٍ عشر : العشر : عشر النحر , والوتر يوم عرفة , والشفع يوم النحر )( )
وقد أقسم الله بهذه العشر وذلك لفضلها وشرفها , ثم أقسم بيومين من أيامها وهما يوم عرفة ويوم النحر , وهذا دليل واضح على عظمها وشرفها .
2 – وقد أقسم الله تعالى بيوم عرفة على وجه الخصوص , وذلك فى قوله تعالى (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود ) [ البروج1 : 3 ] .
وفى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اليوم الموعود هو يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة, والمشهود يوم عرفة )( )
3 – وهذه العشر هى الأيام المعلومات التى ورد ذكرها فى قوله تعالى ( وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) " الحج : 27 ,28 " وقد ورد هذا التفسير عن عبد الله بن عباس , ورواه عنه البخارى فى صحيحه تعليقا( )
ورواه عبد الرزاق فى تفسيره عن قتادة بسند صحيح , ورواه البيهقى فى شعب الإيمان عن مجاهد بسند صحيح , وورد أيضا عن ابن عمر والحسن , وقال به جمع من الفقهاء .وذلك الذكر يكون للحاج لأنه يسوق الهدى للذبح فى هذه الأيام ويشاركه فى ذلك إخوانه المسلمون الذين لم يتيسر لهم الحج .
4 – وهذه الأيام هى أعظم أيام السنة , فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من أيام العشر )( )
5 – وهى أفضل أيام الدنيا كلها , وهذا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفضل ايام الدنيا أيام العشر – يعنى عشر ذى الحجة – قيل : ولامثلهن فى سبيل الله ؟ قال : ولا مثلهن فى سبيل الله إلا من عفر وجهه بالتراب .( ) ، والمعنى : إلا من استشهد فى المعركة .
6 – وفى هذه العشر أعظم الأيام , يوم النحر الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر )( ) ويوم القر هو اليوم الذى يلى يوم النحر , لأن الناس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من الطواف والنحر واستراحوا .
7- ومن فضائل هذه الأيام أنها هى الأيام التى أعطاها الله لموسى عليه السلام كى يتم ميقاته أربعين ليلة ، قال تعالى : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) ( الأعراف : 142 )
وقد ورد هذا عند مجاهد ومسروق ( ) ، فالحمد لله الذى هدانا لهذه الأيام وأضلهم عنها ، فنحن أولى بموسى عليه السلام منهم .
8- ومن فضل هذه الأيام أيضاً ما أشار إليه الحافظ ابن حجر من أن هذه الأيام مكان اجتماع أمهات العبادة ، وهى الصلاة والصيام والصدقة والحج ، ولا يتيسر هذا فى أى وقت من أوقات العام إلا فى هذه الأيام .
9- والمشهور أن ميزة هذه العشر فى أيامها ، وفضيلة عشر رمضان فى لياليها ، هذا الذي عليه الأكثر ، لكن يعترض على هذا الرأى أن الله قد أقسم بليالى هذه العشر فدل ذلك على أن للياليها فضيلة أيضًا والراجح فى هذا ما ذكره ابن رجب الحنبلى من أن مجموع هذه العشر أفضل من مجموع عشر رمضان ، وإن كان فى عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها ، وهى ليلة القدر ، هذا هو الراجح فى التفضيل بينهما ، والله أعلم .
10- ومن فضائل هذه الأيام أن العمل فيها له منزلة عظيمة وفضل كبير عند الله تعالى ، فقد روى البخارى فى صحيحه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ، يعنى أيام العشر ، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد فى سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد فى سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشئ " ( ).
وفضل العمل فى هذه الأيام يدل على فضيلتها فى نفسها ، وعن أنس قال : كان يقال : أيام العشر بكل يوم ألف يوم ، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم . ( )
وعن الأوزاعى قال : بلغنى أن العمل فى اليوم من أيام العشر كقدر غزوة يصام نهارها ويحرس ليلها إلا أن يختص امرؤ بشهادة . ( )
وفى الحديث إشارة إلى عظيم فضل الجهاد ، ومعرفة الصحابة لذلك ، وفيه أيضاً بيان لفضيلة هذه الأيام المباركة ، وفضل العمل فيها ، فإن العمل فيها يفضل الجهاد فى غيرها ، أما فى باقى أيام السنة فإن الجهاد أفضل الأعمال .
فلنحرص على الخير فى هذه الأيام حتى نكون أهلاً بقبول دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا ، فإن نبينا عليه السلام يدعو لنا من غير أن يرانا ، والدليل على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها قالت : لما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم طيب النفس قلت : يا رسول الله ، ادع الله لى فقال : " اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ، وما أسرت وما أعلنت ، فضحكت عائشة حتى سقطت فى حجرها من الضحك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيسرك دعائي ؟ فقالت : وما لى لا يسرنى دعاؤك ، فقال والله إنها لدعائي لأمتى فى كل صلاة " ( ).
فتأمل يا عبد الله ، نبيك يدعو لك بالمغفرة بدون أن يراك ، فاحرص على أسباب المغفرة حتى تسعد بجواره فى جنات النعيم .
ثانياً : عمل الخير في هذه الأيام
من عرف عظمة الشئ بذل فى سبيله العظيم ، وإذا عرفنا عظمة هذه الأيام وفضلها وشرفها فإنه يلزمنا أن نقوم بحقها ، فإن الله تعالى يحب ذوى الهمم العالية ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب معالى الأمور وأشرافها ويكره سفسافها " ( )
فلنبذل الوسع ونشمر فى الطاعة ، ولننظر فى سير سلفنا الصالح رضوان الله عليهم : فقد كان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه .( )
وكان يوصى إخوانه قائلاً : ( لا تطفئوا سرجكم ليالى العشر ، تعجبه العبادة ) ( )
فاجتهدوا وجدوا وابدأو الشهر بدعوة صادقة عند رؤية الهلال : ( اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ربى وربك الله ) ( ).
فإن الله إذا استجاب هذه الدعوة وفقنا إلى الخيرات فى هذه الليالي والأيام المباركات، والله يوفقنا وإياكم .
وسوف أستعرض فى السطور التالية أهم فضائل الأعمال فى هذه الأيام ، والأمر على سبيل التمثيل ، وإلا فأبواب الخير كثيرة ، والله المستعان .
1- ذكر الله كثيرا :
المؤمن ذاكر لله فى كل أحواله ، لا يفتر عن الذكر فى أى حال وهو يقتفى فى ذلك أثر القدوة والمعلم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان يذكر الله على كل أحواله .( )
والذكر فى هذه الأيام أشد استحباباً ، قال تعالى ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) [ الحج : 28 ] والراجح أن الأيام المعلومات هى أيام العشر كما سبق ، وفى حديث ابن عمر يقول النبى صلى الله عليه وسلم " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد " وقد سبق تخريجه .
وفى صحيح البخارى : أن أبا هريرة وعبد الله بن عمر كانا يأتيان السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما ، ولا يأتيان لشئ إلا لذلك .
وقد كان يكبر فى هذه الأيام أيضا جماعة من السلف منهم سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبى ليلى وغيرهم .
فهذه أيام الذكر والطاعة ، فلا يفوتنك الخير فيها حتى لا تندم يوم لا ينفع الندم ، ففى الحديث ( ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة ) ( ).
فأهل الذكر هم أهل الخير كله ، وهم السابقون بالخيرات ، المحترزون من الشيطان بالحصن الحصين ، الداخلون فى حمى رب العالمين الناجون من عذاب الجحيم قال عليه السلام " ما عمل آدمى عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " ( )
2- الدعـــاء :
الدعاء سلاح لا يخيب ، وهو عبادة يؤجر صاحبها عليها سواء استجيب له أم لا ، وهو باب من أبواب الرحمة كما قال عليه السلام " من فُتح له باب من الدعاء فُتِحت له أبواب الرحمة " ( )
ومن عجز عن الدعاء فهو أعجز الناس ، ويتعرض بذلك لغضب الله وسخطه ، والله تعالى لا يخيب رجاء من رفع أكف الضراعة إليه ، فعن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ربكم حيى كريم ليستحى من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً أو خائبين"( ).
وإذا أردت أن يكون دعاؤك أقرب للإجابة فالزم شروط الدعاء وهى الإخلاص ، وعدم الاستعجال ، والدعاء بالخير ، وإطابة المأكل والمشرب ، وحضور القلب ، والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وأراها شرطا من الشروط وليست أدبا ، وذلك لحديث عمر " الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شئ حتى تصلى على نبيك " ( )
وهذا الحديث وإن كان موقوفاً على عمر بن الخطاب إلا أنه له حكم المرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، كما قال القاضى أبو بكر بن العربى .
وليحرص الداعى على التحلى بآداب الدعاء ومنها : أن يستفتح بذكر الله وحمده والثناء عليه ، وأن يعزم فى المسألة ويكون على رجاء الإجابة ، وأن يدعو ويكرر الدعاء ثلاثاً ، وأن يدعو بالجوامع من الدعاء ، وأن يبدأ الداعى بنفسه ، وأن يكثر من الدعاء فى الرخاء ، وأن يستقبل القبلة ، ويحرص على التوبة والاستغفار والصدقة ، وأن يترصد ويتحرى أوقات الإجابة مثل الدعاء فى جوف الليل ، وفى السجود ، وبين الأذان والإقامة ، وعند النداء ، وعند نزول المطر ، وعند صياح الديكة ، وفى ساعة الإجابة يوم الجمعة ، وليلة القدر ، وعند السفر ، وعند المرض ، وليحذر الداعى من السجع فى الدعاء ، يقول ابن عباس فإنى عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك ، رواه البخارى ، وليحذر أيضا من الاعتداء فى الدعاء وذلك يكون برفع الصوت ، والتكلف فى الدعاء ، ولا يدعو بتعجيل العقوبة وتمنى الموت ، ولا يدعو على نفسه وأهله وماله .
ولكل ما ذكرت دليله الثابت ، لكن لم أشأ أن أُطَوِّل بذكر الأدلة ، فإذا حرص العبد على هذه الأمور كان الدعاء أقرب للإجابة إن شاء الله تعالى ، قال الله تعالى ( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [ البقرة : 186 ] وقال تعالى ( وقال ربكم ادعونى أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] .
3- الصيام :
للصوم فضل عظيم وثواب عميم وقد صح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صام يوماً فى سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام " ( )
وثواب الصائم لا يعلم قدره إلا الله تعالى ، وفى الحديث عند البخارى وغيره " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به " .
أما بخصوص هذه الأيام فقد ورد عن السيدة عائشة أنها قالت " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط " وهذا لا إشكال فيه لكن الرواية الثانية وهى صحيحة أيضاً فيها،" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً فى العشر قط " ( )
وللعلماء فى هذه الرواية مسالك شتى ، فمنهم من رجح الروايات التى تثبت الصوم ،وذلك اتباعًا للقاعدة المعروفة : المثبت مقدم على النافى ، يعنى إذا اجتمع على أمر واحد مثبت ونافٍ للأمر قدمنا المثبت لأن معه زيادة علم ليست مع النافى ، وهذا الاتجاه ذهب إليه البيهقى فى سننه والمناوى فى كتاب فيض القدير بشرح الجامع الصغير .